وفقا لما أفادته وكالة أنباء أهل البيت (ع) الدولية ــ أبنا ــ إن اعتبار الورقة الأميركية قدراً من قبل بعض الأطراف اللبنانية يؤكد نقص ثقافة السيادة وعدم نضوج فكرة الدولة في حياة اللبنانيين ويؤكد منهجهم في تبرير العجز على عكس كل سيرورة الأوطان الفعلية والدول الحقيقية ويؤكد أنهم أصحاب مشروع فئوي لا مشروع دولة. كما أن مزايدة بعضهم على براك نفسه قد تؤسس لنسف الصيغة اللبنانية وتفجيرها.
بالعودة إلى موضوعنا: لم يتراجع منطق المقاومة كما يدّعي البعض، بل نراه تعزز. انه لولا صمودها الكبير لكان لبنان مستوطنة لديه جيش عميل مجيش لحد وسعد حداد كما في السابق. أمّا الذي يقول أن المقاومة لم تعد فعالة فإنه يتناسى عقودا من الردع وربما يتغافل عن أن لو انتهت المقاومة واقعاً فلماذا لم يدفع العدو بثقله بالحرب ويجهز عليها ولماذا وافق على وقف الحرب علماً أنه كان في أوج جموحه وحائز على إجماع داخلي وعربي وغربي غير مسبوق لتحقيق هدفه. فيا ترى لماذا أوقف حربه وقبل الاتفاق ( ولو انه عاود وخرقه) ؟! إذا افترض البعض أن نتانياهو راهن على الأميركي لاستكمال الحرب بالسياسة عبر تعديل التوازنات الداخلية وثقافة اللبنانيين على بعضهم فهذا يتنافى مع الذوق العسكري الإسرائيلي الذي يرغب هو أن يثار من عدوه ويحقق النصر ويعزز الردع وكلنا يعلم ان نتانياهو كان متحمّسا جدا . أمّا إذا كان الرهان أن تنجز اهداف اسرائيل السلطة اللبنانية فإن طبيعة لبنان التعددية لا تسمح بتحقيق ذلك ناهيك أن رئيس الجمهورية هو رمز وحدة السيادة والمؤتمن على سيادة بلده، ولا يتوافر لأي حكومة أو سلطة في لبنان مبرراً أخلاقياً ودستورياً لتقدم على هذه الخطوة الأخطر، فالسلاح ليس سلاح أحزاب تتنافس على مغنم وحصة ولا سلاح جهة تستعين بخارج لتقوّى على شركائها وتتغلّب, السلاح موضوعه سيادي بامتياز ، هو سلاح واجه أقذر ما أفزره العقل الغربي أو ما يمكن تسميته نفايات الغرب واعتملاته (لأنّ الجسد الغربي كثير الإفراز للمواد السامة التي يصدرها من خلال سياساته الخارجية وهيمنته، نعم إنّ الكيان الصهيوني هو اشبه ب “معمل تدوير نفايات الغرب” في بلاد العرب). السلاح مسألة سيادية وشأن سياسي محوري. ومن الناحية القانونية فأن إسرائيل هي المخالفة والناقضة للاتفاقات وخصوص اتفاق وقف الحرب مع لبنان. وننوه انه يستحيل وجود قرار سيادي في ظل احتلال قائم وعدوان مستمر. لذلك أي قرار ذو طبيعة سيادية يمكن أن تأخذه السلطة مطعون فيه ولا قيمة دستورية له لأنه يقع في ظل احتلال ويقع تحت خانة القرار المسلوب بدل الحر كنتيجة للإرغام الغربي الأميركي للحكومة .
نعم ان المقاومة تقوّى منطقها، فالخضّة التي تلقّتها تمكنت من تجاوزها بقتال أسطوري منعت فيه العدو من تحقيق أهدافه الفعلية, ما يعني أن المقاومة لا تحتاج إلى إعادة نظر في العقيدة القتالية أو النظرية أو المنهج إنما في العمل على تطوير أداتي عملاني يمكن تجاوزه بعد التقييم والمراجعة وتعديل طرائق العمل. كما أنّ جولات المنطقة الأخيرة أظهرت الفارق العميق بين الدول المطبّعة وموقعها وفرصها والدول المتصدّية حيث برزت فرص فعلية أمام هذه الدول المناهضة للهيمنة الغربية والشعوب فأثبتت أنه لا يمكن أن تبتلع كما حال الأنظمة العربية الخفيفة وكشفت أن القوة يجب أن تتلازم مع الحق.
أما عن سؤال، إمكانية أن تقوم إسرائيل بحرب جديدة على لبنان فيمكن أن نسجل بعض التعليقات:
أولاً: الكيان يعاني ما يكفي من مشاكل وأزمات متفاقمة داخلياً وانكشاف فعلي اصابه مؤخرا وإن ترويج الكيان لإنجازات وكلام عن تغيير الشرق الأوسط ليس أمراً واقعياً بل أقرب للدعاية التي يحاول أن يُقنع فيها نفسه ويتحايل فيه للآخرين، فلا أفق لحروبه – اليوم يمدّ له ترامب سلم النزول ويطرح نوعاً من الضمانات الشخصية لنتانياهو – لقد صار واضحاً أن إسرائيل لا تمتلك استراتيجية خروج ولا تصور والنتائج التي بلغتها لا تمكنها من فرض رؤيتها السياسية على أعدائه، كما أن كلفة الحرب المفتوحة التي بدأتها أكبر بكثير من الإنجازات وفقا لحساب المصلحة – ولولا الإنجاز الأمريكي في سوريا بتواطؤ دولة إقليمية لصعب أن يتحدث أحد في الكيان نفسه عن إنجاز حقيقي لمحور أمريكا إسرائيل –
ثانياً: إن الكيان خسر خسارة لا تجبر في معركة الوعي والأجيال يستحيل ترميمها حتى في أمريكا نفسها كما تؤكد كل الدراسات الموثوقة . إن عناصر جديدة طرأت على بنية العلاقة ستغلب النظرة الأدائية على الإيديولوجية مستقبلاً وسيعني أنه علينا أن نتوقع تراجعاً حقيقياً في بنية العلاقة ومزاياها مع الاجيال الصاعدة في الغرب .
ثالثاً: تأكد ان الكيان لا يتحمل حروباً طويلة فذلك يصطدم مع نمط مجتمعه ويصعب أن تتلاءم الحروب الطويلة مع تحولات متسارعة يمر بها العالم والبنية الدولية فضلاً عن الولايات المتحدة التي تعيد تعريف دورها ومعنى أمريكا العظمى على ضوء المتغيرات الكبيرة التي طرأت .
رابعاً: من الناحية العسكرية، إذا كانت إسرائيل تريد فعلاً حرباً حقيقية يعني أحد احتمالين، إما أن المقاومة في لبنان قوية والعدوان 66 يوما لم يحقق هدفه كما افترض وإما أنه يريد إخراج مجتمع المقاومة كمجتمع وليس فقط السلاح من المشهد اللبناني ، في الاحتمال الأول هذا يعني أن الكيان سيتعرض لضربات وسيكون ازاء مفاجآت ورغبة كبيرة بالثأر عند مجتمع المقاومة وعند المقاومين انفسهم بعدما اخذوا العبرة والدرس
والعدو ليس كما في الجولة الأولى حيث توافر له بنك معلومات وامتلك عنصر المفاجأة. وماذا لو دخلت كل من العراق واليمن لمساعدة مقاومة لبنان، بل أكثر. فمن يضمن أن لا تتوسع ردود الفعل لتطال كل المصالح الأمريكية خصوصاً إذا لمست بيئة المقاومة الاستهداف الوجودي وأنها صارت على مفترق ، أما إذا كان الاستهداف للمكون المقاوم بمعناه السياسي الثقافي باعتبار أن المقاومة العسكرية “ضعيفة” فهذا يعني أن الصيغة اللبنانية ستكون في مهددة خصوصاً أن هناك أطرافاً داخلية تستمر بالتآمر على المكون المقاوم ما يهدد بفوضى عارمة تضرب لبنان وقد تنسحب تداعياتها إلى دول إقليم وبجب أن يتوقع تداعياتها على أوروبا والغرب حال انهيار السقف اللبناني ، وقد تتغير آن ذاك طريقة التعاطي مع المصالح الأمريكية في المنطقة وفي لبنان بحيث يمكن اعتبار اميركا دولة محاربة .
خامساً: تبدو مصلحة ترامب أن يستكمل خطواته لإيقاف حرب غزة كمقدمة لطرح رؤية “سلام” ، فهل حرب مع لبنان ستساعد أم ستضر المسعى الأمريكي الذي لا يزال يتعثر في المنطقة وخارجها (نستثني سوريا) . كما أنه هل المصلحة الأمريكية الترامبية العودة إلى الاستنزاف في غرب آسيا لا سيما بعد نتائج الجولة الأخيرة مع طهران وما ظهر من حدود الجاهزية الأمريكية لحروب طويلة بما يفرض على الغرب تعميق نظرته للمنطقة. كما ظهر جلياً أن سياسة السلام بالقوة التي يتبناها ترامب قد تجره إلى حروب مفتوحة يرفضها الشعب الأمريكي ولا يراها معاركه ولا أولويته ….
سادساً: قد يكون من الأجدى أمريكياً تطويق قوى المقاومة من خلال توظيف الأنظمة العربية بالتزامن مع عملية تأهيل لإسرائيل بعد ما أصابها من قروح وصدع طويل اصاب لـب الكيان ومبررات استمراره. فقد يحتاج لتعويم الكيان مرحلياً بدل دعاية الحرب والإنجازات التي يظهر خواءها كل يوم وإعداده للتصدي الفاعل لإيران. فالجولة الأخيرة كشفت هشاشتهم أمام إيران. وقد ثبت أن الشغل الهادئ بالتنسيق مع قوى عربية وإقليمية أفضل لأمريكا من حروب نتائجها وتداعياتها غامضة ، فالنموذج السوري كان الأفضل في نتيجته حتى الآن أمريكياً .
ختاماً، لا ننكر أننا نعيش عالم اللامنطق واللاواقعي ونتفق مع التحليل القائل انّ الغرب وأمريكا يعيش تحولاً عميقاً زاحفاً ما يصعب تفسير وتوقع قرارهم، فأفعال الغرب في الفترة القصيرة المقبلة ستحكم مستقبل الاستقطاب الحاد بين حدي المصالح والإيديولوجيا وتقديم تصور جامع له .
للأسباب الآنفة كلها نظن أن التهويل أكثر من واقع القدرة والقيود وحسبة المصالح. الأجدى للعدو أن يفتش على أساليب جديدة لخوض مواجهته مع جبهة المقاومة التي تزداد رسوخا. فرصة العمر بالنسبة لاسرائيل لم تصل إلى غايتها رغم آلة القتل. يحب الانتباه من أن يعود لسيرته فيستغل الجهل والتكفير وشهوة السلطة عند حديثي النعمة لخلق صراعات بينية في المنطقة، وهو ما يجب ان يتنبه إليه الجميع .
د. بلال اللقيس / كاتب لبناني
تعليقك